فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله: {عبس وتولى} أي كلح وقطب وجهه وتولى أي أعرض بوجهه.
{أن جاءه الأعمى} يعني ابن أم مكتوم، واسمه عمرو، وقيل عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة، وقيل عمرو قيس بن زائدة بن الأصم بن زهرة بن رواحة القرشي الفهري من بني عامر بن لؤي، واسم أمه عاتكة بنت عبد الله المخزومية، وهو ابن خالة خديجة بنت خويلد أسلم قديماً بمكة، وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب، وأبي بن خلف، وأخاه أمية بن خلف ويدعوهم إلى الله يرجو إسلامهم فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله؛ وجعل يناديه ويكرر النّداء، وهو لا يدري أنه مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه، وقال في نفسه يقول هؤلاء الصّناديد إنما اتبعه الصّبيان، والعبيد، والسّفلة فعبس وجهه وأعرض عنه، وأقبل على القوم الذين كان يكلمهم، فأنزل الله هذه الآيات معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه إذا رآه، ويقول «مرحباً بمن عاتبني الله فيه» ويقول «له هل لك من حاجة»، واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين وكان من المهاجرين الأولين، وقيل قتل شهيداً بالقادسية قال أنس: رأيته يوم القادسية، وعليه درع ومعه راية سوداء، عن عائشة رضي الله عنها قالت «أنزلت {عبس وتولى} في ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم عظماء قريش من المشركين فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخرين ويقول أترى بما أقول بأساً فيقول لا ففي هذا أنزلت» أخرجه التّرمذي، وقال حديث غريب.
{وما يدريك} أي أي شيء يجعلك دارياً {لعله يزكى} أي يتطهر من الذّنوب بالعمل الصّالح وما يتعلمه منك.
{أو يذكر} أي يتعظ {فتنفعه الذكرى} أي الموعظة {أما من استغنى} قال ابن عباس: عن الله وعن الإيمان بما له من المال {فأنت له تصدى} أي تتعرض له، وتقبل عليه وتصغى إلى كلامه {وما عليك ألا يزكى} أي لا يؤمن، ولا يهتدي وإنما عليك البلاغ {وأما من جاءك يسعى} يعني يمشي يعني ابن أم مكتوم {وهو يخشى} أي الله {فأنت عنه تلهى} أي تتشاغل وتعرض عنه {كلا} أي لا تفعل بعدها مثلها {إنها} يعني الموعظة وقيل آيات القرآن {تذكرة} أي موعظة للخلق {فمن شاء} أي من عباد الله {ذكره} أي اتعظ به يعني القرآن ثم وصف جلالة القرآن، ومحله عنده فقال: {في صحف مكرمة} يعني القرآن في اللّوح المحفوظ {مرفوعة} أي رفيعة القدر عند الله، وقيل {مرفوعة} في السّماء السابعة {مطهرة} يعني الصحف لا يمسها إلا المطهرون، وهم الملائكة {بأيدي سفرة} قال ابن عباس: يعني كتبة، وهم الملائكة الكرام الكاتبون، واحدهم سافر ومنه قيل للكتاب سفر، وقيل هم الرّسل من الملائكة إلى الأنبياء واحدهم سفير، ثم أثنى عليهم.
{كرام} أي هم كرام على الله {بررة} أي مطيعين له جمع بار.
قوله: {قتل الإنسان} أي لعن الكافر وطرد {ما أكفره} أي أشد كفره بالله مع كثرة إحسانه إليه، وأياديه عنده وهذا على سبيل التّعجب، أي أعجبوا من كفره وقيل معناه أي شيء حمله على الكفر، نزلت هذه الآية في عتبة بن أبي لهب، وقيل في أمية بن خلف، وقيل في الذين قتلوا يوم بدر، وقيل الآية عامة في كل كافر، ثم بين من أمره ما كان ينبغي أن يعلم أن الله تعالى: خالقه منه فقال تعالى: {من أي شيء خلقه} لفظه استفهام ومعناه التّقرير، ثم فسر ذلك فقال تعالى: {من نطفة خلقه فقدره} يعني خلقه أطواراً نطفة ثم علقة، ثم مشغة، إلى آخر خلقه، وقيل قدره يعني خلق رأسه، وعينيه ويديه، ورجليه على قدر ما أراده {ثم السبيل يسره} أي سهل له طريق خروجه من بطن أمه، وقيل سهل له العلم بطريق الحق والباطل، وقيل يسر على كل أحد ما خلق له وقدر عليه.
{ثم أماته فأقبره} أي جعل له قبراً يوارى فيه، وقيل جعله مقبوراً، ولم يجعله ملقى للسّباع، والوحوش والطّيور، أو أقبره معناه ستره الله بحيث يقبر وجعله ذا قبر يدفن فيه، وهذه تكرمة لبني آدم على سائر الحيوانات.
ثم قال تعالى: {ثم إذا شاء أنشره} أي أحياه بعد موته للبعث، والحساب وإنما قال تعالى: {ثم إذا شاء أنشره} لأن وقت البعث غير معلوم لأحد فهو إلى مشيئة الله تعالى متى شاء أن يحيي الخلق أحياهم {كلا} ردع وزجر للإنسان عن تكبره وتجبره وترفعه، وعن كفره وإصراره على إنكار التوحيد، وإنكار البعث والحساب {لما يقض ما أمره} أي لم يفعل ما أمره به ربه، ولم يؤد ما فرض عليه، ولما ذكر خلق ابن آدم ذكر رزقه ليعتبر فإنه موضع الاعتبار فقال تعالى: {فلينظر الإنسان إلى طعامه} إلى قدرة ربه فيه أي كيف قدره ربه، ويسره ودبره له وجعله سبباً لحياته، وقيل مدخل طعامه ومخرجه.
ثم بين ذلك فقال تعالى: {أنا صببنا الماء صباً} يعني المطر.
{ثم شققنا الأرض شقاً} أي بالنبات {فأنبتنا فيها} أي بذلك الماء {حبًّا} يعني الحبوب التي يتغدى بها الإنسان {وعنباً} يعني أنه غذاء من وجه، وفاكهة من وجه، فلهذا أتبعه الحب {وقضباً} يعني القت وهو الرطب سمي بذلك لأنه يقتضب، أي يقطع في كل الأيام، وقيل القضب هو العلف كله الذي تعلف به الدواب.
{وزيتوناً} وهو ما يعصر منه الزيت {ونخلاً وحدائق} جمع حديقة {غلباً} يعني غلاظ الأشجار، وقيل الغلب الشجر الملتف بعضه على بعض.
وقال ابن عباس: طوالاً {وفاكهة} يعني جميع ألوان الفاكهة {وأبا} يعني الكلأ والمرعى الذي لم يزرعه الناس مما يأكله الدواب والأنعام، وقيل فاكهة ما يأكله الناس، والأب ما يأكله الدّواب.
وقال ابن عباس: ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس.
والأنعام روى إبراهيم التيمي أن أبا بكر سئل عن قوله: {وفاكهة وأبّاً} فقال أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم (خ) عن أنس أن عمر قرأ {وفاكهة وأبّاً} قال فما الأب، ثم قال ما كلفنا أو قال ما أمرنا بهذا لفظ البخاري، وزاد غيره ثم قال اتبعوا ما بين لكم هذا الكتاب وما لا فدعوه.
{متاعاً لكم} يعني الفواكه والحب، والعشب منفعة لكم {ولأنعامكم} ثم ذكر أهوال القيامة فقال تعالى: {فإذا جاءت الصّاخة} يعني صيحة القيامة سميت صاخة لأنها تصخ أسماع الخلق، أي تبالغ في أسماعهم حتى تكاد تصمها {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه} أي إنه لا يلتفت إلى واحد من هؤلاء لشغله بنفسه، والمراد من الفرار التّباعد، والسبب في ذلك الاحتراز عن المطالبة بالحقوق فالأخ يقول ما واسيتني بمالك، والأبوان يقولان قصرت في برنا، والصاحبة تقول لم توفني حقي والبنون يقولون ما علمتنا وما أرشدتنا، وقيل أول من يفر هابيل من أخيه قابيل، والنبي صلى الله عليه وسلم من أمه وإبراهيم عليه الصّلاة والسّلام من أبيه ولوط من صاحبته ونوح من ابنه، وقيل يفر المؤمن من موالاة هؤلاء، ونصرتهم والمعنى أن هؤلاء الذين كانوا يقربونهم في الدنيا، ويتقوون بهم ويتعززون بهم يفرون منهم في الدّار الآخرة، وفائدة الترتيب كأنه قيل يوم يفر المرء من أخيه بل من أبويه لأنهما أقرب من الإخوة بل من الصّاحبة، والولد لأن تعلقه بهما أشد من تعلقه بالأبوين {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} أي يشغله شأن نفسه عن شأن غيره عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه قال: «تحشرون حفاة عراة غرلاً، فقالت امرأة أيبصر أحدنا، أو يرى بعضنا عورة بعض قال: يا فلانة لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» أخرجه التّرمذي وقال: حديث حسن صحيح ولما ذكر الله تعالى حال القيامة، وأهوالها بين حال المكلفين، وأنهم على قسمين منهم السعداء والأشقياء.
{وجوه يومئذ مسفرة} أي مشرقة مضيئة من أسفر الصبح إذا أضاء، وقيل مسفرة من قيام اللّيل، وقيل من أثر الوضوء، وقيل من الغبار في سبيل الله {ضاحكة} أي عند الفراغ من الحساب {مستبشرة} أي بالسرور فرحة بما تنال من كرامة الله، ورضوانه.
ثم وصف الأشقياء فقال تعالى: {ووجوه يومئذ عليها غبرة} أي سواد وكآبة للهم الذي نزل بهم {ترهقها قترة} أي تعلوها، وتغشاها ظلمة، وكسوف وقال ابن عباس: تغشاها ذلة والفرق بين الغبرة والقترة أن الغبرة ما كان أسفل في الأرض، والقترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء {أولئك} أي الذين صنع بهم هذا {هم الكفرة الفجرة} جميع كافر وفاجر والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه. اهـ.

.قال النسفي:

{عبس}
كلح أي النبي صلى الله عليه وسلم {وَتولى} أعرض {أن جاءه} لأن جاءه ومحله نصب لأنه مفعول له، والعامل فيه {عبس} أو تولى على اختلاف المذهبين {الأعمى} عبد الله بن أم مكتوم، وأم مكتوم أم أبيه، وأبوه شريح بن مالك، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو أشراف قريش إلى الإسلام فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه بعدها ويقول: «مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي» واستخلفه على المدينة مرتين {وما يدريك} وأي شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى {لعله يزكى} لعل الأعمى يتطهر بما يسمع منك من دنس الجهل.
وأصله يتزكى فأدغمت التاء في الزاي، وكذا {أو يذكر} يتعظ {فتنفعه} نصبه عاصم غير الأعشى جواباً لـ: (لعل) وغيره رفعه عطفاً على {يذكر} {الذكرى} ذكراك أي موعظتك أي أنك لا تدري ما هو مترقب منه من ترك، أو تذكر ولو دريت لما فرط ذلك منك.
{أمّا مَنِ استغنى} أي من كان غنياً بالمال {فأَنتَ لَهُ تصدى} تتعرض بالإقبال عليه حرصاً على إيمانه {تصدى} بإدغام التاء في الصاد: حجازي {وما عليك ألاّ يزّكّى} وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام إن عليك إلا البلاغ {وأمّا من جاءَكَ يسعى} يسرع في طلب الخير {وهو يخشى} الله أو الكفار أي أذاهم في إتيانك أو الكبوة كعادة العميان {فأنت عنه تلهّى} تتشاغل وأصله تتلهى.
ورُوي أنه ما عبس بعدها في وجه فقير قط ولا تصدى لغني.
ورُوي أن الفقراء في مجلس الشورى كانوا أمراء.
{كَلاَّ} ردع أي لا تعد إلى مثله {إنَّها} إن السورة أو الآيات {تذكرةٌ} موعظة يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها {فمن شاء ذكره} فمن شاء أن يذكره ذكره.
أو ذكر الضمير لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ، والمعنى فمن شاء الذكر ألهمه الله تعالى إياه {في صُحُفٍ} صفة لـ: {تذكرة} أي أنها مثبتة في صحف منتسخة من اللوح، أو خبر مبتدأ محذوف أي هي في صحف {مُّكَرَّمَةٍ} عند الله {مَّرْفُوعَةٍ} في السماء أو مرفوعة القدر والمنزلة {مُّطَهَّرَةٍ} عن مس غير الملائكة أو عما ليس من كلام الله تعالى: {بأيدي سفرةٍ} كتبة جمع سافر أي الملائكة ينتسخون الكتب من اللوح {كِرَامٍ} على الله أو عن المعاصي {بررةٍ} أتقياء جمع بار.
{قتل الإنسَانُ} لعل الكافر أو هو أمية أو عتبة {ما أكْفَرَهُ} استفهام توبيخ أي أي شيء حمله على الكفر، أو هو تعجب أي ما أشد كفره {مِنْ أيِّ شيءٍ خَلَقَهُ} من أي حقير خلقه! وهو استفهام ومعناه التقرير.
ثم بين ذلك الشيء فقال: {مِن نُّطفةٍ خلقه فَقَدَّرَهُ} على ما يشاء من خلقه.
{ثمّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} نصب {السبيل} بإضمار يسر أي ثم سهل له سبيل الخروج من بطن أمه أو بين له سبيل الخير والشر {ثمّ أمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} جعله ذا قبر يواري فيه لا كالبهائم كرامة له قبر الميت دفنه وأقبره الميت أمره بأن يقبره ومكنه منه {ثمّ إذا شاء أنشره} أحياه بعد موته {كَلاَّ} ردع للإنسان عن الكفر {لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ} لم يفعل هذا الكافر ما أمره الله به من الإيمان.
ولما عدد النعم في نفسه من ابتداء حدوثه إلى آن انتهائه أتبعه ذكر النعم فيما يحتاج إليه فقال: {فلينظر الإنسان إلى طعامه} الذي يأكله ويحيا به كيف دبرنا أمره {أَنَّا} بالفتح: كوفي على أنه بدل اشتمال من الطعام، وبالكسر على الاستئناف: غيرهم {صَبَبْنَا الماءَ صبًّا} يعني المطر من السحاب {ثمّ شققنا الأرض شقًّا} بالنبات {فأنبتنا فيها حبًّا} كالبر والشعير وغيرهما مما يتغذى به {وعنباً} ثمرة الكرم أي الطعام والفاكهة {وَقَضْباً} رطبة سمي بمصدر قضبه أي قطعه لأنه يقضب مرة بعد مرة {وزيتوناً وَنَخْلاً وحدائِقَ} بساتين {غُلْباً} غلاظ الأشجار جمع غلباء {وفاكهةً} لكم {وأبًّا} مرعى لدوابكم {مَّتَاعاً} مصدر أي منفعة {لّكم ولأنعامكم فإذا جاءت الصَّاخَّةُ} صيحة القيامة لأنها تصخ الآذان أي تصمها وجوابه محذوف لظهوره {يوم يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وأُمِّهِ وأَبِيهِ} لتبعات بينه وبينهم أو لاشتغاله بنفسه {وصاحِبَتِهِ} وزوجته {وَبَنِيهِ} بدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه ثم بالصاحبة والبنين لأنهم أحب.
قيل: أول من يفر من أخيه هابيل، ومن أبويه إبراهيم، ومن صاحبته نوح ولوط، ومن ابنه نوح {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنهُمْ يومئذٍ شَأْنٌ} في نفسه {يغنيه} يكفيه في الاهتمام به ويشغله عن غيره.
{وجوهٌ يومئذٍ مُّسْفِرَةٌ} مضيئة من قيام الليل أو من آثار الوضوء {ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} أي أصحاب هذه الوجوه وهم المؤمنون ضاحكون مسرورون {ووجوهٌ يومئذٍ عليها غبرةٌ} غبار {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} يعلو الغبرة سواد كالدخان ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه {أولئك} أهل هذه الحالة {هُمُ الْكَفَرَةُ} في حقوق الله {الفَجَرَةُ} في حقوق العباد، ولما جمعوا الفجور إلى الكفر جمع إلى سواد وجوههم الغبرة، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن جزي:

سورة عبس:
{عبس وتولى} أي عبس في وجه الأعمى وأعرض عنه، وقال ابن عطية: في مخاطبته بلفظ الغائب مبالغة في العتب؛ لأن في ذلك بعض الإعراض، وقال الزمخشري: في الإخبار بالغيبة زيادة في الإنكار، وقال غيرهما، هو إكرام للنبي صلى الله عليه وسلم وتنزيه له عن المخاطبة بالعتاب، وهذا أحسن {أَن جاءه الأعمى} في موضع مفعول من أجله، وهو منصوب بتولى أو عبس. وذكر ابن أم مكتوم بلفظ الأعمى ليدل أن عماه هو الذي أوجب احتقاره، وفي هذا دليل على أن ذكر هذه العاهات جائز إذا كان لمنفعة، أو يشهد صاحبها، ومنه قول المحدثين سليمان الأعمش، وعبد الرحمن الأعرج وغير ذلك {وَمَا يُدْرِيكَ} أيّ شيء يطلعك على حال هذا الأعمى {لعله يزكى} أي يتطهر وينتفع في دينه بما يسمع منك.
{أَمَّا مَنِ استغنى فَأَنتَ لَهُ تصدى} أي تتعرّض للغني رجاء أن يسلم {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يزكى} أي لا حرج عليك أن لا يتزكى هذا الغني {وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يسعى} إشارة إلى عبد الله بن أم مكتوم، ومعنى يسعى يسرع في مشيته من حرصه على طلب الخير {وَهُوَ يخشى} الله أو يخاف الكفار وإذايتهم له على اتباعك، وقيل: جاء وليس معه من يقوده، فكان يخشى أن يقع، وهذا ضعيف {فَأَنتَ عَنْهُ تلهى} أي تشتغل عنه بغيره من قولك: لهيت عن الشيء إذا تركته، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأدّب بما أدبه الله في هذه السورة فلم يُعرض بعدها عن فقير ولا تعرّض لغني، وكذلك اتبعه فضلاء العلماء، فكان الفقراء في مجلس سفيان الثوري كالأمراء، وكان الأغنياء يتمنون أن يكونوا فقراء.
{كَلاَّ} ردع عن معاودة ما وقع العتاب فيه {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} فيه وجهان، أحدهما: أن هذا الكلام المتقدّم تذكرة أو موعظة للنبي صلى الله عليه وسلم، والآخر أن القرآن تذكرة لجميع الناس، فلا ينبغي أن يُوثر فيه أحد على أحد، وهذا أرجح لأنه يناسبه: {فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ}، وما بعده، وأنّث الضمير في قوله: {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} على معنى القصة أو الموعظة أو السورة أو القراءة، وذكَّرها في قوله: {فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ} على معنى الوعظ أو الذكرى والقرآن {فَي صُحُفٍ} صفة لـ: {تذكرة} أي ثابتة في صحف، وهي الصحف المنسوخة من اللوح المحفوظ وقيل: هي مصاحف المسلمين {مَّرْفُوعَةٍ} إن كانت الصحف المصاحف فمعناه مرفوعة المقدار، وإن كان صحف الملائكة فمعناه كذلك، أو مرفوعة في السماء ومطهرة أي منزهة عن أيدي الشياطين {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} هي الملائكة، والسفرة جمع سافر وهو الكاتب؛ لأنهم يكتبون القرآن، وقيل: لأنهم سفراء بين الله وبين عبيده، وقيل: يعني القراء من الناس. والأول أرجح. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة» أي أنه يعمل مثل عملهم في كتابة القرآن وتلاوته، أو له من الأجر على القرآن مثل أجورهم.
{قُتِلَ الإنسان} دعاء عليه على ما جرت به عادة العرب من الدعاء بهذا اللفظ، ومعناه تقبيح حاله، وأنه ممن يستحق أن يقال له ذلك، وقيل: معناه لعن، وهذا بعيد {مَآ أَكْفَرَهُ} تعجيب من شدّة كفره، مع أنه يجب عليه خلاف ذلك {مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ} توقيف وتقرير ثم أجاب عنه بقوله: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ} يعني المني، ومقصد الكلام تحقير الإنسان، معناه أنه يجب أن يعلم الرب الذي خلقه {فَقَدَّرَهُ} أي هيأه لما يصلح له ومنه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2]، وقيل: معناه جعله على مقدار معلوم في إعطائه وأجله ورزقه وغير ذلك {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ} نصب {السبيل} بفعل مضمر فسره {يسره}، وفي معناه ثلاثة أقوال: أحدها: يسر سبيل خروجه من بطن أمه، والآخر أنه سبيل الخير والشر لقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3]، الثالث: سبيل النظر السديد المؤدي إلى الإيمان، والأول أرجح لعطفه على قوله: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} وهو قول ابن عباس {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} أي جعله ذا قبر، يقال: قبرت الميت إذا دفنته، وأقبرته إذا أمرت أن يدفن {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ} أي بعثه من قبره، يقال: نشر الميت إذا قام، وأنشره الله والإشارة إذا شاء ليوم القيامة، أي الوقت الذي يقدر أن ينشره فيه.
{كَلاَّ} ردع للإنسان عما هو فيه {لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ} أي لم يقض الإنسان على تطاول عمره ما أمره الله، قال بعضهم: لا يقضي أحدا أبداً جميع ما افترض الله عليه إذ لابد للعبد من تفريط {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طعامه} أمر بالاعتبار في الطعام كيف خلقه الله بقدرته ويسره برحمته، فيجب على العبد طاعته وشكره ويقبح معصيته والكفر به، وقيل: فلينظر إلى طعامه إذا صار رجيعاً، فينظر حقارة الدنيا وخساسة نفسه، والأول أشهر وأظهر في معنى الآية، على أن القول الثاني صحيح وانظر كيف فسره بقوله: {أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً} وما بعده ليعدّد النعم ويظهر القدرة، وقرئ {إنا صببنا الماء} بفتح الهمزة على البدل من الطعام {ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض} يعني يخرج النبات منها {حبًّا} يعني القمح والشعير وسائر الحبوب {وَقَضْباً} قيل: هي الفصفصة، وقيل: هي علف البهائم، واختار ابن عطية أنها البقول وشبهها مما يؤكل رطباً {غُلْباً} أي غليظة ناعمة {وَأَبّاً} الأبّ المرعى عند ابن عباس والجمهور، وقيل: التبن وقد توقف في تفسيره أبو بكر رضي الله عنهما.
{الصآخة} القيامة وهي مشتقة من قولك: صخ الأذن إذا أصمها بشدة صياحه، فكأنه إشارة إلى النفخة في الصور، أو إلى شدة الأمر حتى يصخ من يسمعه لصعوبته وقيل: هي من قولك: أصاخ للحديث إذا استمعه، والأول هو الموافق للاشتقاق {يوم يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ} الآية ذكر فرار الإنسان من أحبابه، ورتبهم على ترتيبهم في الحنو والشفقة فبدأ بالأقل وختم بالأكثر، لأن الإنسان أشد شفقة على بنيه من كل من تقدم ذكره؛ وإنما يفر منهم لاشتغاله بنفسه؛ وقيل: إن فراره منهم لئلا يطالبوه بالتبعات والأول أرجح وأظهر، لقوله: {لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ يومئِذٍ شَأْنٌ يغنيه} أي هو مشغول بشأنه من الحساب والثواب والعقاب، حتى لا يسعه ذكر غيره، وانظر قول الأنبياء عليهم السلام يومئذ: نفسي نفسي {وُجُوهٌ يومئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} أي مضيئة من السرور، وهو من قولك: أسفر الصبح إذا أضاء {عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} أي غبار، والقترة أيضاً الغبار.
قال ابن عطية: الغبرة من العبوس والكرب، كما يقتر وجه المهموم والمريض، والقترة هي غبار الأرض، وقال الزمخشري: الغبرة: غبار يعلوها، والقترة سواد، فيعظم قبحها باجتماع الغبار والسواد. اهـ.